ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ((
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ))[الإسراء:84]، أي: على نيته وقصده ومعتقده كما فسرها
ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره من السلف، فما من أمة ولا من فرد إلا وهذه حقيقته، حتى المنافق الذي ينافق ويدعي الإسلام كذباً، ويصلي ويصوم ويظهر أعمال الإسلام لكنه منافق، فهو يعمل على شاكلته مع أنه في الحقيقة غير مؤمن، ومع ذلك يعمل أعمال الإيمان، فكيف تكون القاعدة؟ القاعدة: أن كل إنسان إنما يعمل وفق ما يعتقد، فالمنافق يصلي ويصوم ويحج ويدعي الإسلام ويقرأ القرآن، فهو مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، فهذا يتناسب مع ما يعتقد، فهو يعتقد أنه يجب عليه أن ينافق، فيصلي ويصوم لمصلحته، وليحفظ دمه وماله وعرضه من الناس، ويعتبر نفسه واحداً من الناس فيكون عمله منسجماً مع نفاقه، فلو أنه كان مؤمناً حقاً لصلى وصام وحج خالصاً لله، ولو أنه كان منافقاً مستكبراً جاحداً حقاً لرفض أن يأتي بهذه الأعمال كما يرفض الكفار، لكن هو في نفسه يعتقد أنه إذا نافق وأظهر خلاف ما أبطن أن هذا هو الصحيح، وبالتالي فعمله موافق لاعتقاده، فهو يعمل على شاكلته، وكل إنسان كادح وكدحه وفق معتقده ونيته، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها )، فالمؤمن يغدو، والكافر يغدو، والعاصي يغدو، والطائع يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، أي: إما أن يعتق، والمعتق هو المؤمن الصالح، أو يوبق، والموبق هو الطالح الفاجر الكافر.إذاً كلهم قد سار وعمل، وأيضاً باع نفسه ووقته، لكن بعضهم يعتق وبعضهم يوبق، وهذا هو الفرق فقط، فالإيمان والدين وكتب الله تبارك وتعالى التي أنزلها الله على عباده جاءت لكي تبين للإنسان كيف يعتق؟ وتحذره من أن يوبق، وهذا هو طريق الجنة، وقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا نخطئ بإذن الله في شيء أبداً، كما بين لنا طريق النار حتى لا يخطئ أحد في ذلك أبداً بإذن الله، فهذا سبيل وهذا سبيل، وهذا طريق وهذا طريق، فإن أردت أن تعتق فهذا طريق، وإن أردت أن توبق فذاك الآخر، قال تعالى: ((
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ))[الإنسان:3]، وقال: ((
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ))[الكهف:29]، فالحق واضح جداً، فمن اختار الكفر وسلكه فإن همه وعزمه وإرادته وحياته، بل وماله ونفسه ستفنى فيه، وإن اختار الإيمان فهو كذلك، ومستحيل أن يؤمن القلب ويقول: إنه قد آمن وكمل إيمانه، وأصبح إيمانه كإيمان الملائكة أو الصديقين، كما قال بذلك
المرجئة ، وتكون الجوارح في طريق آخر، فالقلب في طريق العتق والجوارح في طريق الإيباق، إذ لا يمكن ذلك أبداً، بل لا بد أن يتوحد الإنسان ويكون سيره واحد واتجاهه واحد وحركته واحدة، إذاً مذهب
أهل السنة والجماعة ينطبق على حقيقة الإنسان، وأنه لا بد أن يسلم لله تبارك وتعالى بجوارحه وأعضائه جميعاً، والأحكام التي قسمها علماء الأصول بالنسبة للإنسان في أي أمر من الأمور هي: الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح، فهذه خمسة أحكام، والأعضاء ثلاثة: القلب واللسان والجوارح، ونضرب الثلاثة في الخمسة فينتج خمسة عشر، و
ابن القيم رحمه الله في أول
المدارج بين مدار العبودية وقاعدة العبودية على هذه الخمسة عشر حكماً، فإذا هممت بقلبك فلا بد أن تنظر أحد الأحكام الخمسة، فإن كان واجباً تعتقده فتؤمن به، أو محرماً فيجب أن تجتنبه، مثل: الحسد أو الكفر أو التكذيب أو أي شيء من أعمال القلب، أو مستحباً أو مكروهاً أو مباحاً تفكر فيه، وكذلك القول باللسان، إذ إنه لا تخلو أقوالك من هذه الخمسة، وكذلك أعمال الجوارح، إذاً هذه الخمسة عشر تحصر كل نشاطك وكل عملك، فإما أن تعمل واجباً أو محرماً أو مستحباً أو مكروهاً أو مباحاً، ولا يخرج عملك عن هذا، وبذلك يتبين حقيقة التوحيد والإيمان، ولهذا يقول
ابن القيم رحمه الله في
النونية :
فلواحد كن واحداً في واحد أعني طريق الحق والإيمانفلواحدٍ: وهو الله تبارك وتعالى الواحد الديان، كن واحداً: أي: لا تتشعب بك الآراء، وإنما وحد حياتك وإرادتك وجهدك وهمك وعزمك ونشاطك لله عز وجل، في واحد: وهو الصراط المستقيم.ولذلك الإنسان إذا تذبذب وتشتت في المسير، خطوة في طريق الخير، وخطوة في طريق الشر، فهذا يخشى عليه أن يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله، فقد يأتيه الموت وهو في طريق المعصية والضلالة والبدعة.